تعد مشكلة الحرية من أهم المشكلات التي انصب عليها التأمل الفلسفي من قديم
الزمان إلى أيامنا هذه، وقد اكتسبت هذه المشكلة في الفلسفة المعاصرة خاصة أبعادا
وألونا لم تكن لها من قبل فاليوم تتركز المشكلات كلها حول الانسان. وما الانسان
بدون حرية؟
وفي عصرنا عصر التقدم العلمي الفذ تتجلى هذه المشكلة أروع ما تكون وتسلط
عليها الأضواء من جميع الزوايا، فما حققه العلم من تقدم يرجع الفضل فيه إلى المنهج
الموضوعي الذي يستكشف ما بين الظواهر من علاقات ثابتة مطردة، والذي لا يعترف
بالمرة أن هناك إعجاز أو جبروت أمام العقل البشري، فالعقل بوسعه بلا ريب أن بتوصل
بوسائل البحث العلمي إلى ضبط نشاطه ويتمكن من الوصول إلى نتائج لا دخل للإنسان
بعواطفه ورغباته فيها.
ومن ثم فالقوانين في ميدان العلم قوانين جازمة ويترتب على هذا مجال العلم
دون منازع هو مجال الحتمية الخالصة والمنهج العلمي الذي لم يقتصر سلطانه على المجالات المادية، بل انبسط إلى
الميادين الانسانية، يتطلب في ذاته ومن ذاته إيمانا ضمنيا بحتمية الروابط بين الظواهر
وقد لا يكون ثمة داع إلى إثارة مشكلة الحرية لو اقتصر الأمر على هذا العالم المادي
أو على الجانب المادي في حياة الانسان من حيث كيانه العضوي وطاقاته الحيوية
واستعداداته الطبيعية، بيد أننا حين نواجه النشاط العقلي والتصرف الانساني يعز
علينا أن نربط بين هذا التصرف كنتيجة وبين مقدمات هذا التصرف ومقوماته من دوافع
ورغباته كأسباب وعلل.
فمهما ثبت على أن هناك روابط بين المقدمات والنتائج في التصرف الإنساني، فإننا
نقف حائرين أمام ما ندعوه لغز الحياة البشرية، وهي الحرية. ومن هنا فإن رأي
الفيلسوف الاماني كارل ياسبرز "احتدام
الجدل حول هذا اللغز وهو جدل يمتزج بين لا محالة بالدين والتصور العقلي ومقتضيات
الحياة الاجتماعية ولا ينفك عن أي منها ".
فمشكلة الجبر والاختيار مشكلة عريقة في التراث الانساني تعددت بصددها وجهات
النظر، ولم يصل أحد من المفكرين بشأنها إلى حل حاسم، فلئن كان هناك قول باختيار
مطلق لكان الرد على هذا القول نابعا مما تحتمه الدوافع والحوافز الوجدانية والمقومات
الوراثية ومقتضيات البيئة والاجتماعية، وإذا كان هناك رأي بجبر مطلق، لكان الرد
عليه مستندا إلى الكرامة الانسانية محتجا بالمسؤولية التي تنطوي في صميمها على
الحرية، فكيف يمكن أن يكون الانسان مسؤولا عن تصرف لا يد له فيه؟
ويؤكد ياسبرز لا سبيل لنا من تعريف الحرية فإن في وسعنا مع ذلك إلى
استشراف أبعادها الميتافيزيقية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، فنحن حين ننادي بأننا
جميعا أحرارا وأننا من حيث كوننا بشر فالحرية هي عنوان حياتنا، فإنما نعني بهذا أن
هناك اختيارا يمكننا أن ننهض به وأن هذا الاختيار هو تعبير عن إرادتنا. وإرادتنا
من حيث هي لا يمكن ان تكون على ما هي عليه
إلا اذا اتجهت في طريق دون آخر مع مثول الطريقين أمامها.
فالحرية هنا هي الذات الانسانية، هي اللاعلية، ومعنى هذا أنه ليس هناك علة
محددة لتصرفي، وليس ثمة دافع معين يحتم علي أن أسلك هذا المسلك دون غيره فالإختيار
هنا ليس كما يرى البعض حتمية مقنعة أو جبرا مضمرا، بل هو قدرة مطلقة لا قيد لها أو
شرط، فالاختيار فعل ايجابي ودليل الحرية حق، إن الحرية في كلتا الحالتين هي بيت
القصيد ولكن عندما ترتبط الحرية بالإرادة يتجه الذهن عادة إلى الماضي، وعلى العكس
من ذلك عندما يكون الحديث عن الفعل الحر يتجه الذهن الى الحاضر والمستقبل.
إن الحديث عن حرية الارادة في العصور الوسطى الاسلامية المسيحية هو الذي
جعل قضية الحرية تبحث فقط من زاويتها الدينية، وجرت على الألسن العديد من
التساؤلات. إلى أي حد يمكن للإنسان أن يكون
حرا في مملكة ليست من خلقه أو تدبيره؟ إلى أي حد نستطيع أن نصف الانسان بالحرية
وقد رسم الله طريقه مقدما؟ "وما تشاءون إلا أن يشاء الله " وكما قال الامام الغزالي "إن الله يعلم
دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء." فهل هناك
مجال للحديث عن الحرية الانسانية؟ لا نريد أن نثير المشاكل التي أثيرت حول مشكلة
الجبر والاختيار والقضاء والقدر والصلة بين الحرية الانسانية والعدل الالهي.
بالإضافة الى هذا فإن البحث عن حرية الارادة يجعل الذهن يتجه إلى إبراز
الجوانب الذاتية في الحرية وهي تختلف اختلافا واضحا عن الظروف الموضوعية الواقعية
التي تظهر على المسرح بمجرد البحث في الفعل الحر، فالإرادة الحرة هي إرادة هذا الانسان
الذي لم يخرج من نطاق ذاته، إلى دائرة الفعل الاجتماعي، وهي إرادة هذا الانسان
الذي يكتفي في بحثه في الحرية من ناحيتها الشعورية والسيكولوجية، وقد ينتهي
الانسان من بحثه هذا إلى أنه ليس حرا من ناحية خضوعه لمؤثرات فيزيولوجية وبيولوجية
معينة، وقد ينتهي في بحثه هذا كما انتهى برغسون إلى أنه حر، باعتبار أن
اللحظة التي يشعر فيها الانسان بالحرية ليست مرتبطة بالماضي الفيزيولوجي، ولا يمكن
أن ننظر إليها على انها نتيجة لأثر سابق أو معلول لعلة، بل هي لحظة مستقلة تمام
الاستقلال، وذلك لأن الحياة الشعورية نفسها ينبغي أن تؤخذ ككل قائم بذاته وبالتالي
فإننا لا نستطيع تجزئتها إلى لحظات سابقة أو لحظات حاضرة.
0 التعليقات :
إرسال تعليق