الخميس، 3 مارس 2022

مفهوم النص







ماهو النص؟

النص هو تدوين لروح عصر من خلال تجارب فردية وجماعية في مواقف معينة متعددة ومتباينة،  فالغاية مثلا من تدوين التاريخ توريث كل جيل خبراته للأجيال التالية استمرارا لسلطانه أو على الأقل ترشيدا للمستقبل وتوجيها له. النص تحول إرادي من الشفاهي إلى الكتابي حرسا على تسجيل المواقف وسرعة تقنينها، انتقالا من التعدد إلى الوحدة ومن الاختلاف إلى الاتفاق، فالنص بهذا المعنى هو القضاء على التعدد في الحاضر وإيثار  لوحدة المستقبل، تضييق على الحاضر وامتداد في المستقبل، حتى تبقى الروح في التاريخ وتتوارث الأجيال الفكر جيلا بعد جيل.

 النص إذن ليس وثيقة مدونة أقرب إلى الحفريات أو السجلات القديمة بل هو كائن حي في حالة سكون، يبعث بالقراءة فحيا من جديد وبأشكال جديدة، كما الحال في تناسخ الأرواح عندما تظهر نفس الروح وهو المعنى في أجساد جديدة وهي مجموعة القراءات. النص هو الميت الحي شبه بعباد الاسلاف وأرواح الاجداد، حدث ذلك في كل حضارة بانتقالها من العصر الشفاهي إلى عصر التدوين، فقد ظهرت عدة أناجيل متباينة وتم حفظها كتابة كنوع من الذكرى الجماعية في القرن الثاني الميلادي، حتى وقع بينها التضارب والاختلاف نظرا لتباين القراءات طبقا للبيئات الثقافية المتعددة، إلى أن تم تقنينها في القرن الرابع إيثارا لوحدة القراءة على تعددها.

 حدث ذلك بدرجة أقل في عصر تدوين القران بلهجة قريش حرصا على وحدة القراءة، أي وحدة الفهم منعا للاختلاف والتعدد، وفي هذه الحالة يكون التفسير للشهادات الانسانية المحفوظة عن طريق الكتابة، ثم يدخل التفسير كجزء من النص ويمحى الفرق بين البداية والنهاية بين الوحدات الاولى والمقاطع الاخيرة، ويصبح القارئ مؤلفا كما كان المؤلف قارئا ويتحول العمل الفردي إلى عمل جماعي كما هو الحال في المأثورات الشعبية.

 النص إذن إبداع مستمر وخلق جماعي لا فرق بين تأليفه وقراءته بين وضعه وانتحاله بين فهمه وشرحه، لذلك ظهرت "مدرسة الأشكال الأدبية" للبحث عن الوحدات الاولى التي تكون منها النص، وذلك من خلال أشكالها الأدبية وأصبح نقد الأشكال الأدبية أحدث فروع نقد النصوص.

النص ليس مجرد تدوينة للحفظ والتسجيل ولكنه يمثل سلطة توجيه وتقنين وتشريع، فالنص الأدبي يؤثر في أجيال الأدباء والشبان، ويكون أحد مصادر الإلهام في التشريعات وتكوين القادة والأبطال، والنصوص التاريخية تعبر عن روح الأمة وتكشف مسارها في التاريخ، والنصوص القانونية هي أساس الدولة ودعامتها وركائز مؤسستها، والنصوص الدينية هي بالأصالة سلطة تصدر عن الوحي وطاعة الأنبياء.

تعطي شرعية للسلطان ضد معارضيه كما تشرع للثورة ضد السلطان، يظهر النص كسلطة في النصوص الدينية أكثر من ظهورها في النصوص الأدبية أو التاريخية أو القانونية، وتقتضي النصوص الدينية والقانونية الطاعة أكثر مما تقتضيه النصوص التاريخية والأدبية، لذلك تستعمل النصوص كشواهد في الخطاب في المجتمعات النصية التي لا يزال النص  يمثل في السلطة، ومن ثم انقسمت الحجج قسمين: حجة سلطة، وحجة عقل، بتعبير المعاصرين حجة نقلية وحجة عقلية بتعبير القدماء.

 لا يحتوي النص إذن على مجرد فكرة أو تصور نظري، بل هو أمر أو نهي، خطاب يقتضي الطاعة والخضوع، بإتيان فعل أو بالإمساك عن فعل، يتضمن النص توجها عمليا أكثر مما يتضمن معرفة نظرية، فهو أقرب إلى الأخلاق منه إلى المعرفة، لذلك ارتبطت علوم التفسير بعلوم النفس والأخلاق وكانت مهمة النص هي الاصلاح والتغيير، التخلي عن العادات السيئة واكتساب العادات الحسنة، النص دعوة الى الاصلاح في الارض دون الإفساد فيها لذلك كثرت قراءة النصوص في الخلايا والجمعيات السرية.

0 التعليقات :

إرسال تعليق

عربي باي